قصتي مع مريض

 

اعتدت أثناء مروري اليومي إلقاء التحية على المرضى، كيف الحال! مرتاح! كيف الممرضين معك؟

استوقفتني غرفة (٦) في أحد الأجنحة أثناء مروري،
باب الغرفة مفتوح،
إثنان من أبناء المريض وابنته متواجدون،
رغم قناعتي بأن نصف العلاج هو التفاف أهل المريض حوله
وتواجدهم بقربه، لكن غالباً ما اكون غير راضية عن ملازمتهم الدائمة إياه بسبب أوضاع
الجائحة وخوفاً من فرصة انتقال العدوى، وكالعادة تخبرني مسؤولة الجناح (مترون)
حاولت منعهم من الدخول لكنهم أصروا على البقاء ..

وقفت عند باب الغرفة أردد الجملة المعتادة (أعتذر
منكم لكن وقت الزيارة من الساعة الواحدة حتى الثالثة عصراً، تُمنع التجمعات في
غرفة المريض، مرافق المريض فقط له الحق بالتواجد طوال اليوم).. طلبت من الجميع
المغادرة رغم محاولتهم استرضائي للبقاء ورفض الخروج بطريقة دبلوماسية، لكني رفضت
بشدة نوازي إصرارعلى رحيلهم فوراً.

المريض يومئ لي طالباً مني الدخول، شيخ طال به
العمر وتقدم حد الإنهاك، يحاول التقاط أنفاسه بصعوبة، يحاول الكلام لكن أغلب
كلماته غير مفهومة، تساعد ابنته في ايضاحها أحياناً كثيرة، بل تكاد تعيد بصوتها
الرقيق قول ما كان يحاول قوله بصوته المبحوح المرتجف.

يسألك: أم من أنت؟
ابتسمت وقلت: أنا (مترون) المسؤولة عن أجنحة الباطنية،
يُمنع أن يتواجد كل أبنائك هنا، على أحدهم فقط أن يبقى برفتك، اختر أحدهم، وليرحل
البقية، لسلامتك لسلامتهم لسلامة كل الآخرين في الجناح، تبسم بدوره كأنه لم يعي
تماماً ما قلته للتو، قالت ابنته وهي تكتم ضحكة خجولة، يقول لك: (وجهك منور مترون
اليوم) ، يحاول مباغتتي بلطف، أجبت بلطف مصطنع: ( حجي مع الماسك ما تبين
الابتسامة).

 وعدت مرة
أخرى بشيء من الجدية الواضحة أطلب أن يرحل البقية ويختار من يبقى برفقته، اقتربت
ابنته وهمست قائلة: منذ الصباح وهو لا يكلمنا، لم نسمع صوته إلا منذ قليل حين تحدث
معك، لا بأس ليغادر أغلبكم الآن، وبعد قليل لا ينبغي أن أجد البقية بعد عودتي من
تفقد الغرف المجاورة.

في اليوم التالي اثناء مروري اليومي لتفقد الأجنحة
وجدت ذات الازدحام في غرفة ذات الشيخ، أعدت بنبرة صارمة ما كنت طلبته بالأمس،
الإدارة أوعرت بالتشدد حرصاً على سلامة المرضى والسلامة العامة: لمصلحة المريض
وسلامته أطلب من الجميع المغادرة ما عدا مرافقه، وإلا سأستدعي العلاقات العامة
حالاً.

يصلني صوته المتعب وقد زادته محاولة أن يكون واضحاً هذه
المرة تعباً مضاعفاً، كأنه أشفق على ابنته من تكرار ما يقول، أرجوك مترون، دعي
ابنتي تبقى أنا أحب الشاي الذي تعده، وهذا ابني الأكبر أنا أحبه، وهذا أصغرهم وأكثر
من يعينني ويعتني بي، هو الذي يحملني، هو الذي يساعدني على الاستحمام، هو الذي
يساعدني في الوضوء، في الصلاة، في تناول طعامي، رجاء مترون اسمحي لهم بالبقاء.

يا للحيرة التي تنتهبني، أي قلب يقوى على رد
توسلات الحجي؟ وأي قلب سيقسو خوفاً عليه من أحب الناس إليه؟ قلت وأنا أغادر الغرفة
قليلاً فقط، قليلاً فقط حجي، الله يخليهم لك، الله يخليك لهم.

في اليوم الثالث، وفور دخولي غرفة الشيخ، بادرني هو مبتدئاً بإعادة سؤاله
الأول الذي لم أجبه عليه، أم من أنت؟ وأعين أبنائه المتحلقين حولهم كما كانوا
بالأمس واليوم الذي سبقه تطالعني، تترقب إلحاحي المتكرر، تنتظر لكماتي الجافة، قلت
أنا أم عبدالله، تبسموا جميعاً، حتى الشيخ، تبسم فرأيت تعبه كله لحظتها، كان تعباً
حقيقياً كما لم أره من قبل، تهمس لي الممرضة المسؤولة، قرر الطبيب أن يوصل رئته
بجهاز التنفس الصناعي، لقد ساء وضعه صباحاً، الطبيب من قام بالاتصال بأبنائه
لتوديعه، لعلها المرة الأخيرة مترون، طأطأت أحاول إخفاء الغصة، نظرت في وجهه
الشاحب، وقلت حجي، ليبق الجميع وكأنني لم أرهم اليوم، اتفقنا؟، أدار رأسه مبتسماً
وتمتم بما لم أسمعه وأنا مغادرة..

في ثاني أيام عيد الأضحى، كان العيد في غرفة
الحجي، بناته وأودلاه والحجي يوزع العيدية، يلف رأسه بشماغه الأحمر، قطع دخولي
المفاجئ حديثهم، استدارت ابنته نحوه قائلةً: جاءت ام الوجه المنور يبا، أم عبدالله
جت، عيدك مبارك، شيء ما يخفق بداخلي، أنني أغبطهم، أغبط تجمعهم حول أبيهم في
العيد، تلك السعادة الاعتيادية التي لا نلتفت لها عادة، أغبطهم على دفء اللحظة
التي حُرمت منها، كم أتمنى لو أمكنني الآن أن أكون ولو لدقيقة واحدة عند رأس والدي
في العناية المركزة، لو أمكنني أن أكون معه فقط، تمنيت لهم عيداً سعيداً، عيدكم
مبارك، عيدكم مع والدكم أجمل، مضيت، وكانت تلك المرة الأخيرة التي أرى بها الحجي.

 

Like this article?

Subscribe
Notify of
guest

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.

7 Comments
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
Reem alshammari
Reem alshammari
2 years ago

Touched my heart. Great article 💕

Sadeq Alfeeli
صادق
2 years ago

بارك الله قلمك مترون ام عبدالله ،
احيانا يكون من الصعب استيعاب حاجة المريض من قبل المريض نفسه واهله من جهة ومن الممارسين الصحيين من جهة اخرى
، فيكون فعلا كما عملتيه ان تكيلين المواقف وتوزنيها على حسب مايمليه ضميرك
ومسؤولياتك!! اتجاه المرضى

لو نفس هالموقف صار بمستشفى العدان ، كان صارت علوم ، واكيد هالعلوم مو بعيدة على بقية المستشفيات 🙂

عموما سعدنا بقلمك ونتطلع الى المزيد من التجارب المهنية

Ali
Ali
2 years ago

مقالة راااائعة فيها الكثير من المعاني👏🏼👏🏼

Shahad
Shahad
2 years ago

ماشاء الله كل التوفيق

Nashwa A
Nashwa A
2 years ago

رائعة و مؤثرة

Fatima
Fatima
2 years ago

قصة جميلة

Fatma Al Abdullah
2 years ago

،،،مقاله عميقه تحتاج تامل ،،، وراااائعة

7
0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x